[size=24]
أتدري لماذا يحب المسلمون محمدا ؟ولماذا يعتقدون أنه سيد البشر ؟ لقد كانت ترجمة حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذاتها معجزة.
فحياته فريدة بتلك المميزات التي جعله الله بها أهلا لحمل رسالة الإسلام ، فكانت حياته المعجزة الثانية بعد معجزته الكبرى القرآن الكريم .
كان بشراً وأمره الله أن يقرر هذه الحقيقة، ويعلنها للناس لئلا يتخذوه إلها، أو يمنحوه من صفات الألوهية, قال له ربه جلّ وعلا: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ..(110) }[سورة الكهف].
بشر مثلكم في المقومات العامة للصفة البشرية، ولكن ليس في البشر - على التحقيق - من هو مثله في عظمته، ولم يخلق الله من هذا الطراز من أبناء آدم جميعا إلا رجلا واحدا اسمه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى أبيه إبراهيم، وعلى موسى وعيسى وجميع الأنبياء.
وإن من الظلم لمحمد، وإن من الظلم للحقيقة، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم في دياجي التاريخ، من يوم وجد التاريخ، فإن من العظماء من كان عظيم العقل ولكنه فقير في العاطفة، وفي البيان، ومن كان بليغ القول وثاب الخيال، ولكنه عادي الفكر، ومن برع في الإدارة، أو القيادة، ولكن سيرته وأخلاقه كانت أخلاق السوقة الفجار[1].
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من هؤلاء، إلا كانت له نواح يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها. نواح تتصل بشهوته ، أو ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه وشذوذه، ومحمد هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعا، فكانت كتابا مفتوحا، ليس فيه صفحة مطبقة، ولا سطر مطموس، يقرأ فيه من شاء ما شاء.
وهو وحده الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كل ما يكون منه، ويبلغوه، فرووا كل ما رأوا من أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري، وهي ساعات الغضب، والرغبة، والانفعال.
وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهن. هاكم السيدة عائشة تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله، لأن فعله كله دين وشريعة، ولولا أن في القراء الشبان والنساء، لسردت عليكم طرفا منها، وكتب الحديث والسير والفقه ممتلئة بها.
لقد رووا عنه في كل شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها.
فأروني عظيما آخر، جَرُءَ أن يغامر فيقول للناس: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعا، فاطلعوا عليها، وارووها للصديق والعدو، وليجد من شاء منهم مطعنا عليها.
أروني عظيما آخر دونت سيرته بهذا التفصيل، وعرفت وقائعها وخفاياها، بعد ألف وأربعمئة سنة، مثل معرفتنا بسيرة نبينا؟!
والعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية، وإما أن تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم .
وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ العالم .
ولكل عظيم جانب من هذه المقاييس تقاس بها عظمته، أما عظمة محمد فتقاس بها جميعا لأنه جمع أسباب العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال، عظيم الآثار.
والعظماء إما أن يكونوا عظماء في أقوامهم فقط، نفعوها بقدر ما ضروا غيرها، كعظمة الأبطال المحاربين، والقواد الفاتحين.
وإما أن تكون عظمة عالمية، ولكن في جانب محدود، في كشف قانون من القوانين التي وضعها الله في هذه الطبيعة، وأخفاها حتى نعمل العقل في الوصول إليها، أو معرفة دواء من أدوية الأمراض، أو وضع نظرية من نظريات الفلسفة، أو صوغ آية من آيات البيان، قصة عبقرية، أو ديوان شعر بليغ.
أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فكانت عظمته عالمية، في مداها، وكانت شاملة في موضوعاتها.
وكان مؤمنا بما يدعو إليه، وكثير ممن نعرف من الدعاة، قديما وحديثا، يقولون بألسنتهم ما تخالفه أفعالهم، ويعلنون في الملأ ما لا يأتونه في الخلوات، وتغلب عليهم طبائع نفوسهم، في ساعات الرغبة والرهبة والغضب والجوع والحاجة، فينسون كل ما يقولونه.
ولست أتكلم عن أحد، ولكن أضرب نفسي مثلا، أنا أحاول السمو النفسي حين ألقي المحاضرة وأكتب المقالة الداعية إلى الحق والخير والهدى، فلا أكاد أعلو قليلا حتى يغلب عليّ ثقل طبيعتي وشهوات نفسي الأمارة بالسوء، فأعود إلى الأرض. ويرى الناس ذلك من الوعاظ والخطباء فلا يبالون بما يقولون، ولا يكون للوعظ فيهم أثر.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يدع يوما إلى محاضرة جامعة في بيان أحكام الإسلام، ولم يقم مدرسة لها ساعات ودروس، ولم يجلس في حلقة وعظ، بل كان يبلغ ما يوحى إليه في البيت والمسجد والطريق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حين تدعوا الحاجة إليه، ولكنه يقول ذلك بلسانه وعمله، ويعبر عنه بقوله وفعله. فقد كان خلقه القرآن، وأنتم تسمعون هذه الكلمة ولا تفكرون في معناها، ومعناها يا سادة: أن كل فعل من أفعاله، وكل خلق من خلائقه، آيات تتلى، ومحاضرة تلقى، وحلقة درس ومجلس وعظ، لأنها كلها تنطق بما يأمر به القرآن.
وكان يقوم الليل يصلي حتى تورمت قدماه، ويستغفر الله دائما فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً؟ " . وكان في أعماله كلها في صلاة ؛ لأن كل سعي للخير ودفع للشر وعمل لمصلحة الجماعة، إن أريد به وجه الله، كان لصاحبه صلاة. وأنا أكتفي بمثال واحد على إيمانه بما يدعو إليه، وتمسكه بتطبيقه تمسكا كاملا يعلو على كل الاعتبارات وأمهد لهذا المثال بصورة واقعة.
لو اتُّهِمَت فتاة من أشرف الأُسر – من أسرة كبيرة أو وزير – بتهمة السرقة، أترونها تسجن كما تُسجن (نورية[2])، لو كانت هي السارقة، وينفذ فيها حكم القانون كما ينفذ في تلك النورية، أم تمتد إلى قضيتها مئة إصبع، فتستر الجرم، أو تسهل المحاكمة، أو تهون العقاب؟
لقد وقعت قضية كهذه على عهد الرسول. فتاة من أشرف أسر قريش، من بني مخزوم، من أسرة الوليد الذي يقال له الوحيد، أسرة خالد سيد قواد المعارك، وهي ثالث أسرة شرفا بعد هاشم وأمية، سرقت هذه الفتاة، وثبت الجرم، وتقرر الحكم، فسعى ناس في الوساطة لها، يظنون أن الرسول – لما يعرفون من حبه للصفح والعفو – سيعفو، فإذا هو يغضب ويفهمهم أنما أهلك من كان قبلهم، أنهم إذا اجترم الشريف تركوه، وإذا اجترم الضعيف عاقبوه.
ويقول لهم قولته العجيبة التي وطدت في حياة الإسلام ركنا ثابتا، وقررت أن الحدود لا تسمع فيها شفاعة، ولا يكون فيها عفو: "أما والله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها".
وكان ذلك عنده شيئاً طبيعياً لأنه كان يعيش بالدعوة، ويعيش للدعوة، هواه تبع لما أنزل إليه، وكل ما يصله بالناس من أسباب القرابة والصداقة والمنفعة، ينقطع إذا اعترض طريق الدعوة.
وقد فرغ صلى الله عليه وسلم مما يحيا له الناس عادة من أمر الطعام واللباس، وفرغ من مطالب النفس كلها، ولم يكن يحرص على التقشُّف أو يتعمد الجوع، كما يفعل بعض من يدعي الزهد، ولا يواظب على لباس الفقر، ولا على اتخاذ الصوف، بل كان يأكل ما قدم إليه من الطيبات، وإن لم يعجبه - مما لم يكن محرما - لم يأكله، ولم يعبه.
وما عُرف عنه أنه ذم طعاما قط، وإن لم يجد صبر على الجوع حتى يبرح به فيربط على بطنه الحجر، وكان يلبس ما وجد، ولا يلتزم زيا خاصا ولا نوعاً خاصاً ولا لونا خاصا.
وقد لبس العمامة على القلنسوة، والقلنسوة بلا عمامة والعمامة بلا قلنسوة، واتخذ القميص والإزار والرداء ولبس البرد، ولبس الجبة، لا كهذه الجبة الواسعة والأكمام العريضة، بل الجبة الضيقة الأكمام، ولم تكن عمامته كهذه العمائم، بل كما يعرف من عمائم أهل الحجاز، قطعة من قماش تلف على الرأس فإن لم تكن إليها حاجة ألقيت على العاتق، أو استعملت في حاجة السلم، أو لربط الأسير في الحرب وكان يتخذ لها ذؤابة أحيانا، والعمائم ضرورة من ضرورات الطبيعة في الحجاز ذات الشمس المحرقة، فهم يقون رؤوسهم بها، من وقدة الشمس، ومن ذلك قيل: "العمائم تيجان العرب"، ولم يحرص فيها على لون بعينه، ولقد كانت عمامته يوم الفتح سوداء.
وليس في الإسلام محرم من الثياب إلا ثوبا يكشف عن عورة، وما كان من حرير للرجال، وما كان من الثياب الخالصة بأهل دين غير الإسلام بحيث إن لبسه لابس ظن أنه منهم ، كلباس الرهبان مثلا. وما كان من لباس النساء خاصة يلبسه الرجل، أو من لباس الرجال خاصة تلبسه المرأة، وما كان فيه من سرف وتبذير، وكل ثوب بعد ذلك جائز اتخاذه في الإسلام .
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحرم زينة الله التي أخرج لعباده، ولا الطيبات من الرزق، ولا يردها، ولا يأباها إن وجدها، ولكنه لم يكن يحرص عليها، ويجعلها أكبر همه من دنياه.
لقد فرغ كذلك من شهوة الغنى والجاه، وأنتم تعرفون أن قريشا عرضوا عليه ما شاء من أموالهم إن شاء الغنى، وعرضوا عليه السلطان والإمارة عليهم إن شاء الجاه، ولم يتركوا شيئا مما يعلمون ميل النفوس إليه، وتعلقها به، إلا بذلوه له، ليترك دعوته. فكان يأبى عليهم ما عرضوه، راثياً لهم مشفقا عليهم.
وفرغ كذلك من أمر الشهوة الجنسية، ولقد غر كثرة نسائه – صلى الله عليه وسلم - أقواما من المستشرقين، الذين درسوا الرسول بهذه العقلية الأرضية المريضة، وقاسوه بالمقياس الذي يقيسون به العظماء من رجالهم؛ فرأوا أنه تزوج تسع نسوة، فقالوا :إنه رجل شهواني !
يحسبونه من نوع من عرفوا من رجال السيف أو القلم.
فنابليون مثلا الذي أكره أمة كاملة بحكومتها ووجوه شعبها على أن يكونوا (قوَّادين) له، يوصلونه إلى الفتاة البولونية[3] التي أحب، وزاد على ذلك فاضطر أبا الفتاة على أن يلزمها الإثم الذي أراده منها، وجعل استقلال بولونيا رهنا بتحقيق هذه الرغبة النجسة الفاجرة !!
وليس ذلك وزر نابليون وحده، بل إن اسكندر دوماس، وبيرون وغوت، وبودلير والعشرات من أمثالهم كانت كلها كذلك، وهذه تراجم عظمائهم، إذا بلغت في أي منها بحث أخباره الجنسية، زكمت أنفك روائح تلك الأرجاس، فجاؤوا بهذه العقلية يدرسون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلوا بقولهم عنه أنه شهواني، على جهل بعلم النفس، وجهل بتاريخ محمد، وبعد عن الحياد والنزاهة في البحث !
إن أشد أيام الرغبة الجنسية يقظة وثورة هي السن التي بين البلوغ والخامسة والعشرين، هذه هي السن الخطرة التي ينبغي فيها على كل عاقل وعاقلة أن يحذر فيها كل ما يجر إلى المعصية من التكشف والاختلاط، ومتابعة النظر إلى المحرمات، وإدمان الفكر فيها، ولو كان الاختلاط باسم العلم أو الدرس. فأين كان محمد في هذه السن؟ وما هي حوادث صبوته؟ ولقد كان حرا، في بلد حرّ، ولو أرادها لم يمنعه منها مانع من رقابة ولا من عرف، ولقد كان أمثاله من الشباب غارقين في هذه الملذات، لا يحرمها عليهم دين ولا قانون.
إن سيرة محمد مكشوفة للعدو والصديق، معرضة لأنظار كل ناقد، فهل ترون فيها أنه كان في هذه السن من أرباب الصبوات ومن ذوي الشهوة العارمة ومن المقبلين على المتع والملذات؟
فقد فكر مرة واحدة في أن يمارس بعض ما يمارس أقرانه من اللهو، فألقى الله على عينيه النوم حتى فاته ما فكر فيه. ولو أنه واقع شيئا من ذلك فهل كان يسكت عنه خصومه من المشركين، وقد كانوا حريصين على حربه وإيذائه من كل سبيل؟
وتزوج وهو ابن خمس وعشرين، فهل تزوج الفتاة البكر الجميلة، أم تزوج امرأة في سن أمه أرملة في الأربعين؟ وسائر زوجاته أما كان جُلُّهن أرامل، تزوجهن زواج المصلحة؟ وقد أحل الله له أكثر من أربع، فأعطاه بذلك أكثر من باقي المسلمين. ولكنه حرمه بالمقابل حقا منحه لكل زوج، وهو حق الطلاق .
على أن القوة الجنسية ليست عيبا، وكيف وهي مظهر الرجولة؟ وفيم تكون الرجولة إن لم تكن في هذا؟ لكن العيب، أن يحيا الرجل لها وحدها، ولا يفكر إلا فيها، وأن يطلبها من طريق الحرام.
وقصة زواجه بزينب هذه التي يجترّ بتردادها الخصوم، لا تستحق أقوالهم فيها الرد، لأنها في الواقع مبنية على تحريف متعمّد للواقع، أو على سوء فهم ظاهر.
وزينب فتاة جميلة، وهي قريبة من الرسول، لو كان قد فكر فيها لتزوج بها، وكان ذلك لو أراده أكبر أمانيها وأماني أهلها، ولكن الله جعلها محوراً لإصلاحين اجتماعيين من الإصلاحات الإسلامية، واحد كانت هي مكان التجربة فيه، والآخر كان مكانه الرسول نفسه.
أراد الإسلام القضاء على هذه العزة الجاهلية، وهذا الشعور الطبقي، بتزويج زينب – وهي من أشرف أسر العرب – بزيد وهو أسير متبنى، لا يُعدُّ في نظر هذا المجتمع كفؤاً لها. فتزوجته على كره منها ومن أهلها، وكانت حياتها سلسلة متصلة من المنازعات، وكان كلاهما يتمنى الفراق، ولكن الرسول يمنعه من طلاقها، ويقول له: ( أمسك عليك زوجك واتق الله). حتى امتلأت الكأس وفاضت، ولم يبق إلى الاحتمال سبيل.. فطلقها !
وهنا تجيء التجربة الثانية وهي أصعب وأشق، ويكون على الرسول حمل عبئها، بزواجه من زينب، لإبطال عادة التبني، وبيان أن زوجة المتبنى لا تحرم على المتبني. والصعوبة فيها في تعريض محمد لأن يظن به هذا المجتمع أنه تزوج امرأة ابنه، وهذا الموقف أشق ما مر بالرسول، ومع ذلك قد احتمله راضيا بأمر الله .
فالحكاية ليست كما يظنون ويقدرون. وما يقولونه فيها لغوٌ لا يستحق الرد، وما عرضتُ له إلا لأبين الحق لمن لا يعرفه من القراء[5].
وقوة الجسد هي الانتصار على المقاومة المادية، وقوة القلب نصر على الخصوم، وهنالك قوة أكبر، لأنها نصر على ما هو أكبر من المادة، ومن الخصم . هي قوة الخُلُق، وهي نصر على النفس، وطبائعها وغرائزها ورغباتها وميولها.
وهذه مسألة نفسية مسلمة، عبر عنها الرسول بألفاظ شتى في مناسبات مختلفة، فقال: "ليس الشديد بالصُرَعَةَ[6] ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
وهذا حق تستطيعون إدراكه من أنفسكم، وإذا كانت القوة التي تصرع بها الخصم تقدَّر بواحد مثلا، فإن القوة التي تحتاجها للتغلب على غضبك، وإطفاء ناره في صدرك، وأن تبدو هادئا في حركاتك وصوتك ولهجتك، تقدَّر بمئة، فهي أصعب بمئة مرة من تلك. وجرب أن تجيء لغضبان قد أعماه الغضب، حتى لا يبصر ما أمامه، فتحاول أن تذكره الخُلُق الحسن، واللين والعفو، هل تجد في كل عشرة آلافِ واحداً يستجيب لك في هذه الحال؟
تصور لو أن رجلا قتل أحبّ الناس إليك وأعزهم عليك، ثم جاءك مستسلما لدعوتك (وأنت الداعية)، هل تنسى ما ذرفت من ماء العين على قريبك، وما أرقت عليه من دمع القلب... وتعفو؟
لقد عفا الرسول عن (وحشي) قاتل (حمزة)، لما أسلم، لكن غلبته طبيعته البشرية، فيما لا يخالف الإسلام، ولا يضر الرجل، فقال له: " لا تجعلني أراك "، فكان يتوارى عن عينيه.
وهند، هند امرأة أبي سفيان، التي بلغ من حقدها على محمد ودعوته، أن فعلت ما لا تفعله امرأة، ولا يفعله إنسان، ولا يفعله الذئب، ولا النمر. شقت صدر حمزة وأخرجت قلبه وأكلته.. هند التي فعلت في حرب الرسول الأفاعيل، لقد عفا عنها وبايعها وقَبِل إسلامها.
وأهل الطائف الذين سمعتم بخبر ما فعلوا بالرسول، لما أسلموا عفا عنهم. وهاكم الموقف الأكبر، المثل الأعلى في بابه، في كل العصور: أهل مكة الذين جرعوه وأصحابه الصَّاب والعلقم، وآذوه في جسده ونفسه وعقيدته، وقالوا عنه، ونالوا منه، ومن أصحابه، وقاطعوه، وحبسوه في الشِّعب، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا على رأسه كرش الناقة، وهو ساجد، وسخروا منه أنواع السخريات، واستمر ذلك لا يوما ولا يومين، ولا سنة ولا سنتين، ولكن ثلاث عشرة سنة، ثم حاربوه وذبحوا أقرباءه وأصحابه، حتى ظفر بهم، وأقامهم أمامه حول الكعبة، أذلاء لا يملكون دفاعا، وجاءت ساعة الانتقام.. لا ، دعُوا كلمة الانتقام فإنها لا تليق بالمقام، ساعة العقوبة المشروعة، التي يكون فيها الرد على هذه السلسلة الطويلة من التعديات والإساءات وها هو ذا يقول لهم: "ماذا ترون أني فاعل بكم؟".
إنهم يذكرون ما صنعوا ويعرفون ما يستحقون، ولكن يذكرون أيضا خلق محمد ويعرفون مثله، فيقولون: "أخ كريم، وابن أخ كريم". ويسكتون في انتظار الحكم القطعي، ولو كان الحكم بقتلهم جميعاً، لما وجد من كتّاب التاريخ الصديق منهم والعدو من يلومه بكلمة، ولكن حكم محمد كان غير ذلك، كان مفاجأة لا يتوقعها أحد، مفاجأة أدهشت عصره وكل عصر يأتي بعده، قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وأنا آسف أن أعرض هذا الموقف، هذا العرض الموجز، ولقد كنت أتمنى لو جعلت الفصل عنه وحده، لأجلوه عليكم كما ينبغي أن يجلى، هذا الموقف يحتاج إلى قوة عشرة آلاف مصارع.
وأنا أعجب لماذا حاول المتأخرون من مؤلفي السيرة الاستكثار من المعجزات، والتوسع فيها، وإضافة معجزات لم تكن، وما حاجتهم إليها؟ وكل موقف من سيرة الرسول، وكل جانب من شخصيته، هو معجزة من أكبر المعجزات.
وما المعجزة؟ أليست الأمر الذي يعجز الناس عن مثله؟!
إن صدقه وأمانته معجزة، ولن أسرد عليكم أمثلة كثيرة، فالمجال ضيق. ولكن أعرض مثالاً واحداً، حادثة مررت بها في مطالعاتي مئات المرات فكنت أقرؤها على أنها خبر عادي، ثم تنبهت إليها يوما، فجأة.. فإذا هي أعجوبة، وكم في السيرة من أمثال هذه الأخبار. كلكم تعرفون أنه لما هاجر الرسول إلى المدينة، ترك علياً مكانه ليرد الودائع التي كانت عنده لقريش، فهل فكرتم يوما ما قصة هذه الودائع؟
يردها لقريش لا للمسلمين، إذ لم يبق أحد من المسلمين في مكة لما هاجر الرسول، لأنه كان آخر من هاجر، بقى كما بقى الربان في السفينة الجانحة، لا يتركها حتى ينزل الركاب جميعاً، ويصلوا إلى قوارب النجاة وهذه مَنْقبة ذكرتها عرضا.
قصة الودائع هي أن قريشا كانت (على كل ما كان بينها وبين الرسول) لا تجد من تأتمنه على ذخائرها إلا محمدا، فتصوروا حزبين مختلفين، الحرب قائمة بينهما، حرب اللسان واليد والمبدأ والعقيدة، ثم يأتمن أفراد الحزب على أموالهم وأوراقهم، رجلا من الحزب الآخر!
هل سمعتم بمثل هذه الحادثة؟ وكيف يستودعونها هذا الخصم، إن لم يكن في أخلاقه وأمانته معجزة من المعجزات، والشك فيه أحد المستحيلات؟
هكذا كان محمد !
ويومَ بدرٍ يوم مَّر يعدل الصفوف قبل المعركة، وفي يده قدح (قطعة من الخشب)، فوجد سواد بن غزية بارزاً من الصف، فدفعه بالقدح في بطنه وقال: "اعتدل يا سواد".
قال؛ "يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل". تصوروا هذه المشهدة، قائد الجيش يجابهه جندي عادي بهذا الكلام، ماذا ترونه صانعا به؟
يؤدبه؟ يعرض عنه؟ أو تبلغ به سماحة الصدر ونبالة الطبع، فيسامحه ويعفو عنه؟ أو يزيد على الغاية فيقول: "عفوا أنا أعتذر إليك"؟!.
أما رسول الله فقد صنع شيئاً لا يصنعه أحد، ولا يخطر على بال أحد، كشف له عن بطنه وأعطاه القدح، وقال له: "استقد ! "، أي: أوجعني كما أوجعتك.
أقاد من نفسه وهو سيد البشر!
هكذا كان محمد !
كانت سيرة حياته كلها معجزة، عجز عظماء العالم جميعاً عن أن يتركوا لهم سيرة مثلها، في كل ناحية منها عزة وعظمة، في قوة جسده، وتكوينه الرياضي. في روحه الرياضية، وأنه لا يستخفه النصر حتى يبطره، ولا تزلزله الهزيمة حتى تثير غضبه أو تذهب بعزمه.
في ثباته في المعامع الحمر حتى كان أبطال الصحابة يحتمون به، وفي شجاعته التي تضعضع أمامها صناديد الرجال، وفي تواضعه للمسكين والفقير، ووقوفه للأرملة وللعجوز.
في إقراره بالحق، في صدق التبليغ عن الله، حتى أنه بلغ الآيات التي نزلت في تخطئته وفي عتابه، في احترامه العهود وحفاظه على كلمته، مهما كلفه الحفاظ عليها من مشقة ونصب، سواء عنده في ذلك معاملاته الشخصية وشؤون الدولة.
وفي ذوقه وحسه المرهف، وأنه هو الذي سن آداب الطعام وقرر قواعد النظافة في وضعه مع أصحابه إذ يعلمهم ويعمل معهم، ويعيش مثلما يعيشون، ويستشيرهم ويسمع منهم، ويجلس حيث يجد المكان الفارغ في آخر المجلس حتى كأن القادم عليه ليراه، ينظر في وجوه القوم فيقول: "أيكم محمد؟"
لأن محمداً لم يكن يمتاز عليهم في جلوسه، ولا في ثيابه، كان مثلهم في كل شيء. في سلوكه المهذب العفيف مع النساء، وفي سيرته في بيته ومع أهله، ومزحه الصادق، وانطلاق نفسه. وأنه كان محببا إلى كل قلب، في تواضعه ورفضه أن يعد ملكا.
ونهى أصحابه عن القيام له، وأنه كان يقوم بحاجة أهله، ويخصف بيده نعله.
وأنه عاش حياة الفقر زهداً في الغنى لا عجزاً عنه، ولو شاء لكان قصره أفخم من إيوان كسرى ودارة قيصر. ولكنه اختار الآخرة فكانت دور نسائه جميعا، نسائه التسع، لا يتجاوز طولها كلها[7] خمسة وعشرين متراً.
وكان منزل عائشة غرفة واحدة مبنية من اللبن والطين، وكانت من الضيق بحيث أنها لم تكن تتسع لنومها وصلاته، فكان إذا سجد دفع رجلها ليسجد في مكانها، أما طعامه فقد حدثت عائشة أنه كان يمر الشهر والشهران، ولا يوقد في بيت رسول الله نار ليخبز عليها الخبز. قالوا: "فماذا كنتم تأكلون؟".
قالت: "التمر والماء"
هذا هو طعام أسرة رسول الله !
وفي بيانه وفصاحته، أنه كان أبلغ من نطق وأبان...
كل ذلك فيه الإعجاز، وفيه الدليل على أن الله ما اختاره لأسمى الرسالات، وما جعله خاتم الأنبياء، حتى أعده لذلك إعدادا جعله واحداً في بني آدم، ليس له في شمائله نظير صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم حيث يجعل رسالته.