من هنا يبدأ التغيير
النبي مع الفاروق
كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير ذات يوم مع الفاروق عمر رضي الله عنه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ففاضت مشاعر الفاروق وانطلق لسانه معبرًا عن فيضها، فقال: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسـي)، فيأتي الرد من المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك).
وهنا يسود الصمت، ولا يقطعه سوى صوت عمر بن الخطاب رضي الله عنه معلنًا: (فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي)، فيقول صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر) [رواه البخاري].
فكيف تحول الفاروق رضي الله عنه في لحظات هذا التحول الكبير وصار النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه؟!
"لقد كان التغيير لدى عمر تغييرًا داخليًا، تغييرًا في باطنه وقلبه وقناعاته، ولذا؛ اتَّخَذَ القرار في ذات الوقت ونفس المكان؛ لأنه يعلم أن التغيير يبدأ من الداخل، ثم ينعكس على ألفاظ الإنسان وأفعاله وآرائه وحياتها كلها؛ لأنه يعلم قول الحق جل وعلا: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: ١١]" [قوة المبادرة، د. محمد العطار].
فالله عز وجل "لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزًا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم، وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون.
وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشـر؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم" [في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/356-357)].
ولذلك من أراد أن يسير في طريق الريادة وينطلق في آفاق التغيير، عليه أن يتأكد أن قراره ليس مجموعة من الكلمات والعبارات بل هو قرار ينبع من داخله ثم تصطبغ به حياته كلها.
التغيير من داخلك:
إن بداية التغيير والسير في طريق النجاح، تبدأ بتحطيم الوهم الذي ترسخ في عقول الكثير منا بحتمية الفشل، ولعل هذه القصة الرائعة توضح لك ما أريد، تلك القصة لذلك البطل الذي بدأ سيره بتحطيم حاجز الوهم الذي ارتسمت على جدرانه صور العجز واليأس، فقد "ظل الناس يعتقدون لمئات السنين أنه من غير الممكن جسمانيًّا أن يجري أحد ميلًا كاملًا في أقل من أربع دقائق، بل أعلن المدرب البريطاني في أوليمبياد 1903م أن الرقم القياسي لمسافة الميل هو 4 دقائق و12.75ثانية، لا يمكن تحطيمه.
في نفس الوقت، جاء ذلك الرياضي الذي يدعى روجر بانيستر، والذي اعتقد أنه يستطيع تحطيم الرقم القياسي وكسر حاجز الأربع دقائق، وفي يوم 6 مايو 1952م استطاع تحقيق ذلك، وكان قوله بعد ذلك: (كنت واثقًا أنني أستطيع جري الميل في أربع دقائق) [قوة التحكم في الذات، د.إبراهيم الفقي، ص(37)].
والعجيب أنه في خلال ثلاثين يومًا من تحطيم بانيستر لحاجز الأربع دقائق تمكن 32 رجلًا آخر من تحطيمه أيضًا، وفي خلال عام واحد، تمكن 317 من تحقيق نفس الهدف، وقد تمكن العداء النيوزليندي جون واكر من تحطيم حاجز الدقائق الأربع 120مرة، واليوم نجد أن تلاميذ المدارس الثانوية يكسرون حاجز الأربع دقائق للميل!!) [اضغط الزر وانطلق، روبين سبكيولاند، ص(25)].
ولذلك فإن هناك عبارة رائعة تبين لنا أن التغيير الحقيقي يبدأ من داخلك بإزالة الأوهام والثقة التامة في قدراتك وإمكاناتك،: (لكي ننجح، يجب علينا أولًا أن نؤمن أنه بمقدورنا تحقيق النجاح) [أفضل ما قيل في النجاح، كاثرين كارفيلاس، ص (10)].
كن كهذا الصقر:
ربما يقول البعض، إن ما سبق جميل، لكن هناك الكثير والكثير من الظروف التي تعيق التغيير والتقدم للأمام، نعم صحيح!
إنها الشماعة الكبرى التي يعلق عليها الكثير من الناس تراجعهم وتأخرهم عن قاطرة الفاعلية والإنجاز، فتهدر الطاقة في تعليل الأسباب ونقد الظروف، وإلقاء التبعة على الآخرين.
ولعل القصة الواحدة أبلغ من ألف كلمة وعبارة، لذلك تأمل معي كيف أن أصحاب الطاقات الكبيرة يحولون الظروف الصعبة والقاسية إلى طاقة دافعة للنجاح والتغيير فهم يعلمون أن التغيير ينطلق من المعاناة، وإليك قصة هذا الصقر المحلق.
ففي يوم من الأيام، وبينما كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بين حاشيته فقال لهم: (أخبروني من صقر قريش من الملوك ؟)، قالوا: (ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء)، قال: (ما قلتم شيئًا).
قالوا: (فمعاوية)، قال: (ولا هذا)، قالوا: (فعبد الملك بن مروان)، قال: (ما قلتم شيئًا)، قالوا: (يا أمير المؤمنين، فمن هو؟)، قال: (صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا مفردًا، فمصَّر الأمصار، وجند الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام مُلكًا عظيمًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته) [البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ابن عذاري، (1/ 165)، بتصـرف يسير].
(فهل كان طريق الصقر ممهدًا؟ يجيبك التاريخ على ذلك، فقد دخل الأندلس وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، مطارد من قبل العباسيين في المشرق، ومن الخوارج في المغرب، الكل يريد رأسه، وحيدًا إلا من عون الله وتوفيقه، ثم شدة بأس، وعزيمة نفس، لا تقف أمامها الصعاب، ولا تفت في عضدها الظروف، ومع كل ذلك ينجح بفضل الله تعالى في الوصول إلى الأندلس وتكوين جيش مقاتل، يؤسس به أركان الخلافة الأموية الأندلسية.
ثم دخل عبد الرحمن قرطبة فصلى بالناس وخطب فيهم، فكان ذلك بمثابة إعلان ميلاد الدولة الأموية في الأندلس، وبويع له بالخلافة في (10 من ذي الحجة 138هـ / 18 من مايو 756م)، ليصبح أول أموي يدخل الأندلس حاكمًا، ويطلق عليه ذلك اللقب الذي عُرف به "عبد الرحمن الداخل"، مؤسس تلك الدولة الفتية، التي أصبحت حضارتها منبعًا لحضارة أوروبا الحديثة، وظلت منارًا للعلم والمدنية عبر قرون طويلة من الزمان) [قوة المبادرة، د. محمد العطار].
حتى يغيروا ما بأنفسهم:
إن ما سيق يبين ويؤكد على شيء واحد وهو: أن من يريد التغيير والنجاح ذلك هو الشخص الإيجابي الذي يشكل الظروف ويضغط عليها، وليست هي من تشكله وتضغط عليه، الشخص الذي يستخرج التغيير من داخله ولا ينتظر أن يهبه إياه أاحد، فهو قادر بإذن الله وبما حباه الله عز وجل من إمكانات وقدرات.
إن الشخص الذي نريد يمكن أن تجده في هذه الأبيات:
هذا الرقيـق تـراه عـند الـروع في قـلب الأسـود
متـبـسماً والـدهـر غضبـان يـزمجـر بـالوعيـد
فـإذا رمـاه بالخـطـوب رمـاه بالعــزم الجـليـد
وإذا دعتـه الواجـبـات... فحـمـلتـه بـما يـئـود
وجـدتـه صلب المنـكبـيـن فـلا يـخر ولا يـميـد
---------------