الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على أشرف الأنام وخير من نطق بالبيان، نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.. أما بعد:
لا شك أن حفظ القرآن من أعظم الأعمال وأرفعها شأناً عند الله -عز وجل-، وقد يسر الله تعالى القرآن للذكر والحفظ، ورتب على حفظه الدرجات العليا في الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)1 والانشغال بحفظ القرآن وتلاوته يكفي به شغلاً فالحياة في ظل مائدة القرآن حياة طيبة، وحياة سعيدة، ولا شك أن الإنسان يملك من الطاقة والعزيمة ما يدفعه لحفظ كتاب الله في سنة بل أقل من ذلك، وقد خص الله هذه الأمة بقوة الحفظ يوم أن ضيعتها الأمم السابقة، فكان النتيجة أن ضيعت كتبها.
ويستطيع الإنسان أن يحفظ القرآن في سنة، بل في أقل من ذلك، إن حفظ كل يوم ورقة. لكن لا بد له أولاً أن يسلك بعض القواعد التي تساعده على ذلك، وهناك مجموعة قواعد لحفظ القرآن الكريم نذكر أهمها:
- إخلاص النية لله -عز وجل- في حفظ القرآن، فإن من حفظ القرآن لمصلحة خاصة أو عرض زائل ولم يقصد به وجه الله عوقب بعقوبة شديدة –نسأل الله العافية- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة... فذكر منهم: (رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قاريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار...)2
- العمل بالقرآن:
يقول الله -عز وجل-: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} (282) سورة البقرة، وترك الذنوب والمعاصي مما يساعد على حفظ القرآن، ويحكى عن الإمام الشافعي قوله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العـلم نـور ونور الله لا يهدى لعاصي
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن الرجل ليحرم العلم بالذنب يصيبه"
وحفظ القرآن يحتاج إلى إشراقة القلب، وإلى توقد الذهن، والمعصية تطفئ النور في القلب وتؤدي إلى تبلد العقل، ويحرم العبد بسببها من التوفيق أيضاً.
- وجود الهمة العالية والدافع الذاتي للحفظ: وهو الأساس لمن يريد حفظ القرآن.
- اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب، والبعد عن الشواغل والتشويش.
- تنظيم الوقت وتوزيعه توزيعاً حسناً على ساعات الليل والنهار، ليتجدد النشاط والهم، ويذهب الكلل والملل.
من أعظم ما يعين على الحفظ أيضاً فهم الآيات المحفوظة، ومعرفة وجه ارتباط بعضها ببعض، وألا يتجاوز سورة حتى يربط أولها بآخرها، وبعد إتمام السورة لا ينبغي أن ينتقل إلى سورة أخرى إلا بعد إتمام حفظها تماماً، وربط أولها بآخرها وإتقانها.
والمتابعة الدائمة والمراجعة للمحفوظ، لأن الرسول قد أخبر أن القرآن يتفلت، قال -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)3 وعن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه)4.
وعليه أن يعتني بالمتشابه، وخاصة التشابه في اللفظ حتى يتقن الحفظ جيداً. وفي القرآن ما هو متشابه، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} (23) سورة الزمر. وأن يغتنم سنوات الحفظ الذهبية من الخامسة إلى الثالثة والعشرين تقريباً، حيث تكون الحافظة في هذه الفترة قوية، ثم تضعف.
وعليه أن يحرص على القراءة الصحيحة أثناء الحفظ حتى لا يحفظ خطأً فيثبت هذا الخطأ؛ ويصحح المخارج ؛ وكذلك ضبط الحركات والكلمات.
وأن يضبط أواخر الآيات، لأن مع السرعة والعجلة قد لا يتنبه، فيحفظ حفظاً خاطئاً، مثل {العزيز الرحيم} و{وهو العزيز الحكيم} وغيرها. ولكي تكون القراءة صحيحة لا بد من القراءة على شيخ متقن، لأن القرآن يتلقى بالمشافهة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تلقى القرآن من جبريل مشافهة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لقنه لأصحابه، والصحابة لقنوا لمن بعدهم. وعليه أن يكرر المحفوظ، ويربطه بما سبق. وهناك أيضاً أمور تساعد على تثبيت الحفظ، كالقراءة في النوافل، وفي وقت انتظار الصلوات، فينبغي على قاريء القرآن ألا ينشغل عن القرآن، وأن يسمع الأشرطة المجودة، ويلتزم مصحف أو طبعة واحدة، وأن يستعمل أثناء الحفظ أكبر قدر من الحواس البصر والأذن والقلب. ومما يساعد على المراجعة: الإمامة في الصلاة، وتحفيظ القرآن, وقيام الليل والقراءة فيه، وفهم معاني القرآن وتأملها.
وعلى كلٍ فالقرآن مسهل وميسر للحفظ، لكن لمن أعانه الله، وكان ذو همة عالية.
ويستطيع المسلم حفظه في سنة بل أقل إن كان جاداً، بل إن شباباً حفظوه في أشهر معدودة، وهم الآن يتقنونه حفظاً وتلاوة.
نسأل الله أن يرزقنا حفظ القرآن، والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1 - سنن أبي داود (ج 4 / ص 263 – 1252) وسنن الترمذي (ج 10 / ص 156 – 2838) ومسند أحمد (ج 14 / ص 46 - 6508 ) وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم: 8122.
2 - صحيح مسلم - (ج 10 / ص 9 - 3527)
3 - صحيح البخاري - (ج 15 / ص 447 – 4645) وصحيح مسلم - (ج 4 / ص 202 - 1317)
4 - صحيح مسلم - (ج 4 / ص 198 - 1313)